الخليج الاقتصادي الإماراتية 

الاثنين 22 فبراير 2010

د . أيمن علي

يواصل الدولار الأمريكي الارتفاع منذ مطلع العام الجديد، حتى وصل في نهاية الشهر الأول الى أعلى مستوياته في ستة أشهر مقابل العملات الرئيسية . ولأن أسعار السلع الرئيسية في الاسواق العالمية تتناسب عكسيا مع سعر العملة الرئيسية التي تقوم بها، فقد أخذت أسعار الذهب والنفط في التراجع . وربما كان سعر النفط مثالاً جيداً على ذلك، اذ تراجع من اعلى من ثمانين دولاراً للبرميل الى أقل من خمسة وسبعين دولاراً في تلك الفترة القصيرة التي يرتفع فيها سعر الدولار، رغم أن هناك عوامل أساسية تحافظ على قوة الطلب الموسمي على النفط في مقدمتها موجة البرد في نصف الكرة الأرضية الشمالي .

وشجع ارتفاع سعر العملة الأمريكية الآن عدداً من المحللين في سوق العملات والاقتصاديين وخبراء المال والأعمال على توقع أن يكون عام 2010 عام انتعاش الدولار . الا أن هناك كثيرين ايضاً ما زالوا عند تقديراتهم السابقة من ان الدولار لم يصل الى ادنى مستوى له بعد، وأنه آخذ في التراجع وأن لم يكن على المدى القصير . ويكاد يجمع هؤلاء وأولئك على ان الدولار بدأ بالفعل يفقد مكانته التي احتفظ بها لنحو نصف قرن كمخزن للقيمة في العالم وعملة الحسم للمعاملات الدولية وكذلك عملة الاحتياطيات الدولية وتسعير السلع الاساسية في التداولات .

تأتي أهمية الارتفاع الاخير في قيمة العملة الوطنية لاكبر اقتصاد في العالم من حقيقة تراجع سعر صرف الدولار على مدى السنوات القليلة الماضية حتى فقدت العملة الأمريكية ما يقرب من ربع قيمتها . ورغم حقيقة ان المستثمرين حول العالم، من افراد ومؤسسات وحكومات، لم يتوقفوا عن شراء الدولار كمخزن للقيمة خلال الازمة المالية العالمية على مدى العامين الاخيرين، إلا أن الدولار تراجع العام الماضي وحده في المتوسط بنسبة 4 في المائة .

صحيح ان الاسواق تراقب باهتمام ارقام الاقتصاد الكلي الصادرة عن واشنطن، ومرتاحة الى ما يبدو من تجديد فترة رئاسة بن برنانكي للاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأمريكي، لكن الحقيقة ان الارتفاع الاخير في سعر الدولار لا يعود الى تحسن الاقتصاد الذي يقف خلفه  الاقتصاد الأمريكي  ولا الى تغير العوامل التي تحكم سعر الصرف للعملة، بقدر ما يعود الى مشاكل العملات الرئيسية الاخرى وتطورات الاقتصاد الصيني . فسعر اليورو آخذ في التراجع بسبب المشاكل المالية التي تعاني منها اليونان، التي ادى الحجم الهائل لديونها الى تخفيض تصنيفها الائتماني من قبل مؤسسات التصنيف العالمية الرئيسية . ويخشى ان تكون الصعوبات المالية اليونانية بداية سلسلة من المشاكل المالية والاقتصادية في اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي . ولا تقتصر مشاكل اليورو المتعلقة بالاقتصادات التي يستند اليها على اليونان وازمة ديونها الهائلة، بل ان الارقام الاخيرة حول أداء اقتصادات دول اليورو ليست مشجعة، وكان آخرها تراجع النشاط الصناعي في تلك الدول، ما يعني ان التعافي الاقتصادي ليس جيداً بعد .

لكن يبقى العامل الحاسم الذي أدى الى تحسن سعر صرف الدولار في الأيام الأخيرة هو ما يصدر من انباء وارقام عن الصين  ثالث اكبر اقتصاد في العالم الآن والمرشحة لتحل محل اليابان كثاني اكبر اقتصاد  بشأن سياستها المالية وارقام اقتصادها الكلي . ومما عزز ارتفاع سعر العملة الأمريكية نشر تسريبات بأن السلطات الصينية طلبت من البنوك الوطنية الحد من الاقراض، فيما بدا اشارة نحو مزيد من تشديد السياسة النقدية في البلاد . ثم جاءت الارقام المصاحبة لارتفاع الناتج المحلي الاجمالي الصيني باكثر من التوقعات الحكومية لتشير الى ارتفاع كبير جداً في معدل التضخم في البلاد . ولعل مراقبة وضع الاقتصاد الصيني، والتحليلات الكثيرة التي تشير الى ان نموه الهائل مصحوب بمشاكل خفية، تحفزان المستثمرين على اللجوء للدولار تحسباً لما قد يحدث في المستقبل القريب للاقتصاد العالمي .

تلك العوامل المتعلقة بالعملات الرئيسية الاخرى في العالم، التي تقاس قيمة الدولار مقابلها، بعيدة عن الاساسيات الاقتصادية للدولار .

ورغم التصريحات العلنية للمسؤولين الماليين والاقتصاديين الأمريكيين وفي مقدمتهم رئيس الاحتياطي الفيدرالي برنانكي بأن بلاده حريصة على ان يكون الدولار قوياً، فإن الارجح ان يستمر الدولار في التراجع وإن ليس على المدى القصير . ذلك بأن الاقتصاد الأمريكي اكبر مدين في العالم الآن، ودينه مقوّم بالدولار في شكل سندات الخزانة وغيرها، ومن مصلحة واشنطن ان تقل قيمة الدين وهذا ما يحدث مع انخفاض سعر الدولار .

وتضمن العدد الاخير من “ماكنزي كوارترلي” الصادرة عن معهد ماكنزي الدولي، ملفا حول العملة الأمريكية ومستقبلها على المديين المتوسط والطويل . وفي المقالات التي تضمنها الملف عدّد الخبراء الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد الأمريكي، واهمها العجز في الميزانية الفيدرالية الذي اقترب من اعلى مستوياته بعد الحرب العالمية الثانية . واصبح العجز الأمريكي يساوي الآن ضعف ما يتم تحصيله من ضرائب الدخل، واكبر مما تنفق الحكومة الأمريكية على برامج الانفاق المحلي وميزانية الدفاع معا . ويتوقع ان يستمر مستوى العجز عند تريليون دولار لسنوات طويلة مقبلة . ويقدر بعض المحللين ان تتضاعف نسبة الدين الى الناتج المحلي الاجمالي اربع مرات لتصل الى 200 في المائة بحلول عام 2030 و300 في المائة بحلول عام 2050 . ومع ان كل تلك الاختلالات يمكن التعامل معها وتجاوزها بشكل أو بآخر، الا ان ذلك يحتاج الى خيارات اقتصادية وسياسية في غاية الصعوبة لا تبدو الإدارة الأمريكية الحالية قادرة على اتخاذها .

وتخلص مقالات ملف “ماكنزي كوارترلي” الى ان الدولار قد لا ينهار تماما في غضون السنوات العشر المقبلة، لكنه بالتاكيد يفقد مكانته كعملة الاحتياط الرئيسية في العالم . ومن غير الواضح بعد ما الذي يمكن ان يحل محله، خاصة وأن العملة الأكثر مناسبة، وهي اليورو، تعاني أيضاً اختلالات هيكلية في الاقتصادات الرئيسية الداعمة لها  في المانيا وفرنسا وإسبانيا وايطاليا . أما الصين  التي تحرص حتى الآن على ربط عملتها الوطنية، اليوان، بالدولار  فرغم مؤشرات نمو اقتصادها السريع إلا انها ربما كانت في طور “نفخ” فقاعة اقتصادية سيؤدي انفجارها وتفريغها إلى هزة ليس في الاقتصاد الصيني فحسب، بل في الاقتصاد العالمي كله .

0 تعليقات