الأهرام المصرية 

السبت 29 أغسطس 2009

بقلم ‏:‏ إسـامة غيــث

تعد قضية الدين العام إحدي القضايا الرئيسية التي تشغل الخبراء والمختصين والمسئولين عن المال والاقتصاد والأعمال لانعكاساتها السلبية الحادة علي مجمل الأوضاع الاقتصادية للدولة ومع تحول الحكومات كمدين الي منافس شرس للقطاع الخاص والأفراد للحصول علي جانب متزايد من قروض الجهاز المصرفي القومي‏,‏ وبالتالي عدم إتاحته لتمويل النشاط الخاص واستثماراته وأعماله مما يؤدي في النهاية الي حجب التمويل المصرفي أو الجانب الأهم والمؤثر منه عن الأعمال والتنمية الخاصة في ظل تدفقه لتمويل عجز الموازنة العامة للدولة بكل مايعنيه العجز في النهاية من رفع لمعدلات التضخم الي معدلات تعيق النشاط والأعمال والإستثمار وتتسبب في خلل الاقتصاد علي المستوي العام وعدم استقراره وتدفعه دفعا للانكماش والركود التضخمي بكل مساوئه وأضراره الفادحة‏.‏

وحول مخاطر ارتفاع قيمة الدين العام وارتفاع فاتورة تكاليفه السنوية من أقساط وفوائد تكاد تلتهم ثلث ايرادات الموازنة العامة للدولة وتضيف بذلك أعباء ثقيلة علي الإنفاق العام وتضخم من عجز الموازنة وترفعه لمعدلات غير آمنة يوضح الدكتور محمد صالح الحناوي استاذ الاستثمار والتمويل بجامعة الإسكندرية ضرورة الإعلان عن وقفة جادة لضبط وترشيد الدين العام‏,‏ وأن تكون البداية من خلال المراجعة الدقيقة والشاملة لأذون وسندات الخزانة التي ارتفعت قيمتها بمعدلات كبيرة علي امتداد السنوات الطويلة الماضية بما يضمن إعادة النظر فيها كأسلوب من أساليب تمويل عجز الموازنة العامة مع تحولها الي مصدر رئيسي لتراكم الدين العام‏.‏

وقال الدكتور محمد صالح الحناوي عضو مجلس ادارة الهيئة العامة لسوق المال السابق أن هناك مقالتين قرأتهما الأسبوع الماضي اثارتا شجوني‏..‏ الأولي للمهندس شريف دلاور في أهرام الأحد‏2009/7/12,‏ والثانية للدكتور هشام الشريف في أخبار الأربعاء‏2009/7/15‏ لتعود بي الذاكرة الي صيف عام‏1991‏ عندما بدأت رحلة أذون وسندات الخزانة كوسيلة من وسائل الاقتراض العام تمويل عجز الميزانية‏.‏

وكتبت حينئذ ـ وكتب ايضا الدكتور حازم الببلاوي ـ محذرين من هذه الإصدارات وآثارها السلبية علي الاقتصاد المصري في المستقبل وعلي الأجيال المقبلة‏..‏ ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل وقفت شخصيا أمام الرئيس حسني مبارك في لقائه بأساتذة جامعة الإسكندرية في هذا العام معارضا لسياسة الحكومة‏(‏ حكومة د‏.‏ عاطف صدقي‏)..‏ مقدما كل مبرراتي لرفض هذه السياسة المالية‏,‏ ومؤكدا أن الأجيال القادمة ستعاني أشد المعاناة من هذه السياسة‏,‏ ولسوء الحظ فقد صدقت توقعاتي وبشكل أسرع كثيرا مما كنت أتصور‏,‏ فالمعاناة لم تنتظر الأجيال القادمة بل تحققت ـ بكل أسف ـ في جيلي‏.‏ وفي هذا اليوم طلب الرئيس من د‏.‏ كمال الجنزوري‏(‏ وكان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء المسئول عن المجموعة الاقتصادية‏)‏ الرد علي ماذكرته فانبري يدافع عن قرار حكومته‏,‏ وفي نهاية دفاعه أكد أن إصدار الأذون هو سياسة مؤقتة للغاية‏,‏ وسيتم التوقف عن إصدارها خلال أسابيع‏..‏

وكان المبلغ الذي نتحدث عنه لايزيد علي‏30‏ مليار جنيه وعليه فوائد لاتتعدي‏3‏ مليارات جنيه سنويا‏.‏ ولم يحدث هذا التوقف بل استمر إصدار أذون الخزانة بأشكالها المختلفة حتي هذه اللحظة‏(18‏ عاما‏)‏ ليقترب حجم الدين العام من‏700‏ مليار جنيه ولتصل الفوائد السنوية الي مايقرب من‏75‏ مليار جنيه‏.‏

والسؤال هنا هو‏:‏ لماذا وصلنا الي هذه الحالة الحرجة ؟ بداية اتفق مع القائلين بأن العبرة ليست بكبر حجم الدين المحلي ولكن بالطريقة التي يستخدم بها هذا الدين‏,‏ بالإضافة الي القدرة علي الوفاء بأصل الدين وفوائده فأين نحن من ذلك‏.‏

تشير بيانات ميزانية الدولة الأخيرة إلي أن الإيرادات المحصلة علي الضريبة لا تغطي مصروفاتها‏.‏ وهذا الأمر قد يكون طبيعيا ولكن من غير الطبيعي أن تكون هذه الإيرادات مقصورة علي تغطية بندين فقط من بنود الميزانية‏,‏ وهما الأجور وفوائد الدين العام ناهيك علي احتياجات الدولة الأساسية الحالية‏(‏ اقصد احتياجات المواطنين‏)‏ وعلي الإستثمارات التي تحقق معدلات تنمية معقولة‏.‏

ماذا يعني ذلك‏..‏ يعني أن الديون المتكررة والمتراكمة موجهة بالكامل لأغراض غير استثمارية وغير إنتاجية وهي الأغراض التي لها مردود إيجابي يأخذ صورة عوائد تساعد في تغطية اصل الدين وفوائده‏,‏ وقد تحقق فائضا يسهم في زيادة معدل النمو الاقتصادي‏.‏ ويعني أيضا أن تضخم الدين المحلي لايرجع فقط للمغالاة في الاقتراض‏,‏ بل أيضا بسبب تراكم الفوائد علي الدين المحلي بحيث أصبحنا ـ بسبب قصور الموارد المالية ـ نعيد الاقتراض لتسديد اصل وفوائد الديون السابقة ولايتبقي من القروض مايمكن توجيهه لإستثمارات مجدية أو لتخفيض العجز الجديد المتزايد من عام لآخر‏.‏ واستعيد ماسبق أن كتبته من سنوات بعيدة بأن الاقتراض الداخلي في صورة اذون وسندات خزانة ـ اذا لم يستخدم بحرص شديد ـ سيتحول من منهج لعلاج عجز الميزانية الي وسيلة لتوليد العجز وقد ثبت ذلك مع الأيام‏.‏ دائرة جهنمية يتطلب الخروج منها فكرا مبتكرا وخلاقا يسمح بضخ الجزء الأكبر من الدين المحلي في الاستثمارات التي تعود بالفائدة علي الأجيال القادمة وبحيث لا يقتصر الأمر علي مجرد إبقاء الأوضاع الإقتصادية والاجتماعية علي ماهي عليه وهو أمر لاننكر انه اقصي ماحققته الحكومة حتي الآن‏.‏

***‏

في معاهدة ماستريخت التي حددت شروط الانضمام الي العملة الأوروبية الموحدة اليورو جاء شرط الدين العام وعدم تجاوزه نسبة‏75%‏ من الناتج المحلي الإجمالي شرطا أساسيا يجب أن تحققه الدولة المنضمة للعملة الموحدة بما يضمن استقرار العملة الوليدة وقوتها وارتكازها علي اقتصادات قوية وعفية‏,‏ كما تضمنت الشروط ألا يتجاوز العجز السنوي للموازنة العامة للدولة نسبة‏3%‏ من الناتج المحلي الإجمالي لضمان السيطرة علي التمويل بالعجز وعدم انفلات معدلا التضخم‏.‏

وفي الدول النامية فإن التمويل بالعجز ايضا له صوره وقواعده ويمكن الدفاع عن مشروعيته اذا كان يستهدف توفير التمويل اللازم للمزيد من الاستثمارات العامة الإنتاجية والخدمية بشرط ضبطه والسيطرة عليه في الحدود الآمنة التي لاتشعل التضخم‏,‏ ولكن أن يتم التمويل بالعجز لسد إحتياجات فوائد وأقساط ديون متراكمة فإن ذلك لابد وأن يستوجب وقفة حازمة للنظر في سياسات الإصلاح المالي اللازمة بشكل عاجل وحازم‏.‏

0 تعليقات